-->
موقع محمود العيسوي موقع محمود العيسوي
random

مواضيع تهمك

random
random
جاري التحميل ...
random

عرض كتاب فصل المقال لابن رشد



 

 

عرض كتاب فصل المقال لابن رشد




التعريف بابن رشد



هو محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي، أبو الوليد: الفيلسوف، ولد سنة (520 = 1126) قرطبة، عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات كثيرة.
وصنف نحو خمسين كتابًا، منها " فلسفة ابن رشد - ط " وتسميته حديثة وهو مشتمل بعض مصنفاته، و " التحصيل " في اختلاف مذاهب العلماء، و"الحيوان" و"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - ط " و " الضروريّ " في المنطق، و " منهاج الأدلة " في الأصول، و " المسائل - خ " في الحكمة، " وتهافت التهافت - ط " في الرد على الغزالي، و " بداية المجتهد ونهاية المقتصد - ط " في الفقه، و " جوامع كتب أرسطاطاليس - خ " في الطبيعيات والإلهيات، و " تلخيص كتب أرسطو - خ " و " علم ما بعد الطبيعة - ط " و " الكليات - ط " بالتصوير الشمسي، في الطب، ترجم إلى اللاتينية والإسبانية والعبرية، و " شرح أرجوزة ابن سينا - خ " في الطب، في خزانة القرويين (الرقم 2786) بفاس، و " تلخيص كتاب النفس - ط " ورسالة في " حركة الفلك ". وكان دمث الأخلاق، حسن الرأي. عرف المنصور (المؤمني) قدره فأجلّه وقدمه. واتهمه خصومه بالزندقة والإلحاد، فأوغروا عليه صدر المنصور، فنفاه إلى مراكش، وأحرق بعض كتبه، ثم رضي عنه وأذن له بالعودة إلى وطنه، فعاجلته الوفاة بمراكش عام (595 هـ = 1198 م)، ونقلت جثته إلى قرطبة، قال ابن الأبار: كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه. ويلقب بابن رشد " الحفيد " تمييزا له عن جدّه أبي الوليد محمد بن أحمد (المتوفى سنة 520) ومما كتب فيه: " ابن رشد وفلسفته - ط " لفرح أنطون، و " ابن رشد - ط " ليوحنا قمير، و " ابن رشد الفيلسوف - ط " لمحمد بن يوسف موسى، و " ابن رشد - ط " لعباس محمود العقاد[1].

وصف الكتاب



اسم الكتاب: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال.
المؤلف: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595هـ)
قدم له وعلق عليه: الدكتور ألبير نصري نادر (من أساتذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية).
الناشر: دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية).
الطبعة: الثانية، 1968.
عدد الأجزاء: 1
وصف الكتاب:
- الكتاب يقع في 67 صفحة من القطع المتوسط (غير صفحات الغلاف ومعلومات الطباعة).
- ابتدأ المحقق الكتاب بتمهيد تحدث فيه عن بعض نسخ الكتاب (المخطوطة أو المطبوعة)، استغرق هذا التمهيد ثلاث صفحات.
- ثم ترجمة للمقدمة التي كتبها بالإنجليزية للكتاب نفسه الدكتور جورج فضلو الحوراني، وتشغل هذه المقدمة حوالي ست صفحات من (ص: 4) إلى (ص: 10).
- ثم تعريف بابن خلدون وبعض آثاره وبيان نزعته التوفيقية، شغل خمس صفحات؛ من (ص: 11) إلى (ص: 15).
- ثم مقدمة تحليلية للكتاب شغلت أحد عشرة صفحة؛ من (ص: 16) حتى نهاية (ص: 26).
- متن الكتاب نفسه ويقع في 32 صفحة؛ من بداية (ص: 27) حتى نهاية (ص: 58).
- ثم ضميمة كتبها ابن رشد في توضيح مسألة تكلم عنها في كتابه تشغل أربع صفحات؛ من (ص: 59) حتى (ص: 62).
- ثم ملاحظات وتعليقات للمحقق في صفحتين هما (ص: 63، 64).
- فهرس الآيات التي ذكرها ابن رشد، وفهرس الأحاديث التي ذكرها ابن رشد، وهما في صفحة واحدة؛ (ص: 66).
- فهرس موضوعات الكتاب ويقع في الصفحة النهائية؛ (ص: 67).









عرض الكتاب


ابتدأ المؤلف - رحمه الله -  كتابه بالحديث عن الفلسفة والمنطق والشريعة، وكان أول ما بدأ به كتابه سؤاله: هل أوجب الشرع الفلسفة؟
ثم أخذ يبحث على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب، وبين أن فعل الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الخالق وأنه كلما كانت المعرفة بها أتم كانت المعرفة بالخالق أتم.
وأن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلَّبَ معرفتها به،يدل على ذلك قوله تعالى: {اعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ويستدل ابن رشد بهذه الآية على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا.
وأيضًا يستدل بقول الله تعالى: { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] على أن هذا للأمر بالنظر في جميع الموجودات.
ثم يزعم أن إبراهيم عليه السلام ممن خصه الله تعالى بهذا العلم وشرَّفه به؛ مستدلاًّ بقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
وبيَّن أنه إذا كان الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه - وهذا هو القياس - فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي، وبيَّن أن هذا النحو من النظر هو أتم أنواع القياس العقلي.
وبين أنه غير ممكن أن يقف واحد من الناس على جميع ما يحتاج إليه كل من معرفة أنواع القياس الفقهي أو معرفة القياس العقلي وبيَّن أنه إذا كان غيرنا قد بحث واستنبط شيئًا من معرفة أنواع القياس العقلي فإنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا سواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا أو غير مشارك في الملة؛ لأن الآلة التي تصح بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة، وبين بوضوح قصده من غير المشارك لنا في الملة، وبين أنه يقصد من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام، وأنه ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم. فننظر فيما قالوه من ذلك: فإن كان كله صوابًا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب، نبَّهنا عليه.
وتحت عنوان: لا يمكن لفرد واحد إدراك كل العلوم يحدثنا ابن رشد أنه يجب أن يستعين المتأخر بالمتقدم، على مثال ما عرض في العلوم التجريبية وضرب مثالاً بعلوم الهندسة وعلم أصول الفقه؛ فهذه صناعة أصول الفقه، والفقه نفسه لم يكمل النظر فيما إلا في زمن طويل، ولو حاول أنسان اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وقعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام لكان أهلاً أن يضحك منه، لكون ذلك ممتنعًا في حقه مع وجود ذلك مفروغًا منه.
هذا في الصناعات العلمية، فكيف بصناعة الصنائع، وهي الحكمة؟ وإذا كان هذا الأمر كذلك  فقد يجب علينا إن وجدنا لمن تقدمنا من الأمم السابقة نظرًا في الموجودات بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غبر موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.
وتحت عنوان: الفلسفة ومعرفة الله تعالى يؤكد ابن رشد أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع؛ لأن مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها - وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية - فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى!
ثم ذكر تحت عنوان: موافقة الشريعة لمناهج الفلسفة أنه ليس يلزم من أنه قد يغوى غاوٍ بالنظر في الفلسفة أو يزل زال - إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلمًا يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها - أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها. فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات، و استدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للذي أمره بسقي العسل أخاه لإسهال كان به، فتزايد الإسهال به لما سقاه العسل، وشكا ذلك إليه: ((صدق الله وكذب بطن أخيك))، وشبه الذي يمنع النظر في كتب الحكمة مَن هو أهل لها، من أجل أن قومًا من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قِبَل نظرهم فيها، بمثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قومًا شرقوا به فماتوا!
وأوضح هذا الذي عرض للفلسفة هو شيء عارض لسائر العلوم، فكم من فقيه كان الفقه سببًا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا!
وأوضح أن طباع الناس متفاضلة في المعرف التصديق؛ فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق، بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان،ومنهم يصدق بالأقاويل الخطابية.
وبين أنه لما كانت شريعتنا الإلهية قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث عمَّ التصديق بها كل إنسان، إلا من جحدها عنادًا بلسانه، أو لم تتقرَّر عنده طرق الدعاء فيها إلى الله تعالى لإغفاله ذلك من نفسه، وبين أن لهذا السبب - سلوك الشريعة في الدعوة طرق المغرفة الثلاثة - خص النبي عليه الصلاة والسلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، مستدلاًّ بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
وبين أن إذا كانت هذه الشريعة حق وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع؛ لأن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.
ثم تدث عن التأول وبين أنه إذا كان النظر المؤدي إلى معرفة الحق النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن أدى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به، فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هنالك، وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفًا طلب هنالك تأويله، والتأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه.
وتحت عنوان: التوافق بين المعقول والمنقول يبين أنه إذا كان الفقيه يؤول ويستنبط ويعمل عقله في كثير من الأحكام الشرعية، فإنه بالحري أن يفعل ذلك صاحب الفلسفة! لأن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني، وإن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع فإن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي.

وبين أن المسلمين قد على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، وأنهم قد اختلفوا في المؤول منها من غير المؤول؛ فمثلاً الأشعريون يتأولون آية الاستواء وحديث النزول والحنابلة تحمل ذلك على ظاهرِه.
وأوضح أن السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، وأن السبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها.
وتحت عنوان: استحالة الإجماع العام يحدثنا عن أنه إذا كان المسلمون قد أجمعوا على حمل أشياء من الشرع على ظواهرها وأشياء على تأويلها وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره، أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ وبين أنه لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلم يصح، وأما أن كان الإجماع فيها ظنيًّا فقد يصحوأوضح أنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء.
ثم بين سبب تكفير الغزالي للفلاسفة من أهل الإسلام، كأبي نصر وابن سينا؛ فإنه - الغزالي - قد قطع بتكفيرهما في كتابه التهافت في ثلاث مسائل: في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات - تعالى عن ذلك - وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد.
وبين  أن الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما قطعًا؛ إذ قد صرح  - الغزالي - في " كتاب التفرقة أن التكفير بخرْق الإجماع فيه احتمال.

وبين ابن رشد أنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل؛ لما روي عن كثير من السلف الأول، فضلاً عن غيرهم أن ها هنا تأويلات يجب أن لا يفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل وهم الراسخون في العلم.
وبين تحت عنوان هل يعلم الله تعالى الجزئيات؟ غلط الغزالي على الحكماء المشائين بما نسب إليهم من أنهم يقولون أنه - تقدس وتعالى - لا يعلم الجزئيات أصلاً، بل يذكر ابن رشد أنهم يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها، وذلك أن علمنا بها معلول للمعلوم به فهو مُحدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمَن شبَّه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدًا، وذلك غاية الجهل، فاسم العلم إذا قيل على العلم المحدث والقديم فهو مقول باشتراك الاسم المحض، كما يقال كثير من الأسماء على المتقابلات.
وتساءل منكرًا على أبي حامد: كيف يتوهم على المشائين أنهم يقولون أنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات؟ وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمَّن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه؟

وتحت عنوان: تقسيم الموجودات ورأي الفلاسفة فيها يحدثنا عن اختلاف المتكلمين في مسألة قِدَم العلم وحدوثه، وبين أن الاختلاف فيها بين المتكلمين من الأشعرية والحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعًا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء؛ وذلك أنهم اتفقوا على أنه يوجد ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة ببن الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.
فأما الطرف الواحد، فهو موجود وجد من شيء، يعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه - أي على وجوده - وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء، وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة.
وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء ولا تقدمه زمان، وهذا أيضًا اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته "قديمًا"، وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله - تبارك وتعالى - هو فاعل الكل وموجده والحافظ له - سبحانه وتعالى.
وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء - أي: عن فاعل - وهذا هو العالم بأسره.
وبيَّن أنهم جميعًا متفقون على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فأما المتكلمون فيسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك، لأن الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضًا متفقون مع الفلاسفة على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي، والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته، وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل، فهذا الوجود الآخر الأمر فيه بيِّن أنه قد آخذ شبهًا من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث وسماه قديمًا ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث، سماه محدثًا وهو في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًّا، ولا قديمًا حقيقيًّا؛ لأن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة.

وبيَّن أن المذاهب في العالم ليست متباعدة كل التباعد حتى يَكفر بعضها ولا يكفر. فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد - أي: متقابلة. 
ثم تكلم عن تأويل بعض الآيات التي يدل ظاهرها على وجود قبل وجود العالم، من مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وبين أن ظاهر الآية أن وجودًا كان موجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان؛أي: المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك.

وأيضًا قول الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] يقتضي بظاهره أن وجودًا ثانيًا يكون بعد هذا الوجود.
وبين أن المتكلمين ليسوا في قولهم في قدم العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون لأنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد في هذا نصٌّ أبدًا.
وتحت عنوان خطأ الحاكم وخطأ العالم أي خطأ معذور يوضح أن المختلفين في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبون مأجورون، وإما مخطئون معذورون، مستدلاًّ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر)) وتساءل: أيُّ حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود بأنه، كذا أو ليس بكذا، وذكر أن هؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله بالتأويل، وأن الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلَّفهم الشرع النظر فيها.

وأوضح أن الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف من الناس فهو إثم محض، وبين أنه إذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن تجتمع له أسباب الاجتهاد - وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس - فإنه بالحري يجب أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات؛ أي: يجب أن يعرف الأوائل العقلية ووجه الاستنباط منها.
وبيَّن تحت عنوان: الأصول الثلاثة للشرع والإيمان بها هي التي لا يعرى أحد من الناس عن وقوع التصديق له من قِبَلها بالذي كلف بمعرفته، وهي الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بى)) يريد: بأي طريق اتَّفق لهم من طرق الإيمان الثلاثة.
وبيَّن أن الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده، الذين لا سبيل لهم إلى البرهان - إما مِن قِبَل فِطَرهم، وإما من قِبَل عادتهم، وإما من قِبَل فقدانهم أسباب التعلُّم - بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال؛ إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أي: الجدلية والخطابية، وهذا هو السبب في أن انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن، فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان.
ثم أوضح أننا إن كنا نعلَم الشيء بنفسه بالطرُق الثلاثة لم نحتج أن نضرب له أمثالاً، وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل، وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأوِّل له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أن يَسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط.
وأنه إذا تقرَّر هذا فقد ظهر من قولنا أنه يوجد ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وإن كان فيما بعد المبادىء فهو بدعة، وأنه يوجد أيضًا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر.

وأوضح وجود صنف ثالث من الشرع متردِّد بين هذين الصنفين - الذي يجب أن يؤول، والذي لا يجوز أن يؤول - يقع فيه شك، فيُلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يَجوز تأويله، ويُلحقه آخرون بالباطن الذى لا يجوز حَمله على الظاهر للعلماء، وذلك لصعوبة هذا الصنف واشتباهه، والمخطىء في هذا معذور - أي: من العلماء.
وعن اختلاف العلماء في أحوال المعاد بيَّن أن هذه المسألة من الصنف المختلف فيه؛ وذلك أن قومًا ينسبون أنفسهم إلى البرهان يزعمون أن الواجب حملها على ظاهرها، لعدم وجود برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية، وقوم آخرون أيضًا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا، ومن هذا الصنف أبو حامد وكثير من المتصوفة. ومنهم من يجمع فيها التأويلين، كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه.
وبيَّن أنه يشبه أن يكون المخطىء في هذه المسألة من العلماء معذورًا والمصيب مشكورًا أو مأجورًا؛ وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحوًا من أنحاء التأويل؛ أي: في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفْي الوجود، وذكر أن جحْد الوجود في هذه كفر لأنه في أصل من أصول الشريعة، وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاثة المشتركة للأحمر والأسود.
أما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على ظاهرها وتأويلها في حقه كفر؛ لأنه يؤدي إلى الكفر.
وشدَّد على أنه يجب أن لا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان، وأما إذا أثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية.
وذكر أنه يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن الكتب التي تتضمن العلم، إلا من كان من أهل العلم، كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من ليس أهلاً لها، وإن كان الضرر الداخل على الناس من كتب البرهان أخف؛ لأنه لا يقف على كتب البرهان - في الأكثر - إلا أهل الفِطَر الفائقة، وبين أنه إنما يؤتى هذا الصنف من عدم الفضيلة العملية ومن القراءة على غير ترتيب ومن أخذها من غير معلم، ولكن منعها بالجملة صادٌّ لما دعا إليه الشرع؛ لأنه ظلم لأفضل أصناف الناس ولأفضل أصناف الموجودات.
وعن أقسام العلوم الدنيوية والأخروية ذكر أن ينبغي أن يُعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق، والعلم الحق هو معرفة الله - تبارك وتعالى - وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنُّب الأفعال التي تُفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي.
ثم أوضح أن هذه المعرفة تنقسم قسمين؛ أحدهما أفعال ظاهرة بدنية، والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه، والقسم الثاني أفعال نفسانية، مثل الشكر والصبر، وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها، والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة.
وأوضح أن التعليم صنفان؛ تصوُّر وتصديق، وطرق التصديق - الموجودة للناس - ثلاث؛ البرهانية، والجدلية، والخطابية، وطرق التصور اثنتان؛ إما الشيء نفسه وإما مثاله.

وأوضح أن طرق التصديق التي في الشريعة على أربعة أصناف:
- أن تكون مع أنها مشتركة خاصة في الأمرين جميعًا؛ أي: أن تكون في التصور والتصديق يقينية، مع أنها خطابية أو جدلية وهذا هو الصنف من الأقاويل الشرعية ليس له تأويل والجاحد له أو المتأول كافر.
- أن تكون المقدمات مع كونها مشهورة أو مظنونة يقينية، وتكون النتائج مثالات للأمور التي قصد إنتاجها، وهذا يتطرق إليه التأويل.
- أن تكون النتائج هي الأمر التي قصد إنتاجها نفسها، وتكون المقدمات مشهورة أو مظنونة من غير أن يعرض لها أن تكون يقينية، وهذا أيضًا لا يتطرق إلى نتائجه تأويل، وقد يتطرق لمقدماته.
- أن تكون مقدماته مشهورة أو مظنونة من غير أن يعرض لها أن تكون يقينية، وتكون نتائجه مثالات لما قصد إنتاجه، وهذه فرض الخواص فيها تأويل، وفرض الجمهور إقرارها وإمرارها على ظاهرها.
وذكر أنه لا يجوز أن يكتب للعامة ما لا يدركونه، وأن من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده؛ لأن الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف؛ صنف ليس هو من أهل التأويل أصلاً، وهم الجمهور الغالب، وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة؛ أي: صناعة الحكمة.
وتحدث عن ما أخطأ فيه الأشعريون، محطئًا لهم طرقهم التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم لأنهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما أنهم ليسوا مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، وأما أنهم ليسوا مع الخواص فلكونها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان، وأكثر الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية؛ فهي تجحد كثيرًا من الضروريات، مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات والصور الجوهرية والوسائط، وقد بلغ من تعدي نُظَّارهم في هذا المعنى على المسلمين أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود البارىء سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم!

وتحدث عن عصمة الصدر الأول عن التأويل فذكر أن طرقهم في الإثبات هي الطرق التي ثبتت في الكتاب العزيز فقط، فإن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس، وهذه هي الطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة، وإذا تؤمِّل الأمر ظهر أنه ليس يلقى طرق مشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة أفضل من الطرق المذكورة فيه، فمن حرَّفها بتأويل لا يكون ظاهرًا بنفسه، أو أظهر منها للجميع - وذلك شيء غير موجود - فقد أبطل حكمتها وأبطل فعلها المقصود في إفادة السعادة الإنسانية، وذلك ظاهر جدًّا من حال الصدر الأول، وحال من أتى بعدهم؛ فإن الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير أن يصرح به، وأما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قلَّ تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرَّقوا فرقًا.
وعن كيفية التوفيق بين الحكمة والشريعة ذكر أنه يجب على مَن أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء شيء مما كلِّفنا اعتقاده، واجتهد في نظره ظاهرًا ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئًا إلا إذا كان التأويل ظاهرًا بنفسه - أي: ظهورًا مشتركًا للجميع. 
وبيَّن أن الأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز: - أنه لا يوجد أتم إقناعًا وتصديقًا للجميع منها.
- أنها تقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهى إلى حد لا يقف على التأويل فيها - إن كانت مما فيها تأويل - إلا أهل البرهان.

- أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق.
وهذا ليس يوجد لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة، ولذلك كثرت البدع.


هذا والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وصلى الله على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


* لتصفُّح كتاب "فصل المقال فيما بين الكمة والشريعة من الاتصال" لابن رشد أو تحميله  بصيغة PDF اضغط هنا




[1] - قضاة الأندلس 111 والتكملة لابن الأبار 1: 269 والإعلام - خ. في وفيات سنة 595 والمعجب 242 و 305 وفيه: وفاته في آخر سنة 594 وقد ناهز الثمانين. وطبقات الأطباء 2: 75 وشذرات الذهب 4: 320 وآداب اللغة 3: 104 والفهرس التمهيدي 456 و 467 والمستشرق كارا دي فو.B Carra de Vaux في دائرة المعارف الإسلامية 1: 166 - 175 والمغرب 104، نقلاً عن الأعلام للزركلي (5 / 318).


التعليقات



عن الموقع

موقع محمود العيسوي: موقع إلكتروني ثقافي شامل.

إحصائيات الموقع

شبكة الألوكة

زيارة شبكة الألوكة

جميع الحقوق محفوظة

موقع محمود العيسوي

2019


تطوير

ahmed shapaan