قصة أمة (2)
أوتاد الدين..!
حين حط النبي صلى الله عليه وسلم رَحْلَه بأرض يثرب الطاهرة، كان أول ما بدأ به أن بنى المسجد، ولو علم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عملاً هو أجل وأعظم من ذلك لبدأ به قبل بناء المسجد؛ لتعلم الأمة كلها أن أول البناء الشامخ والطود الراسخ لهذه الأمة لها هو هذا البناء، الذي يربطها بخالقها - جلَّ وعلا.
هذا، وللمسجد مكانة عظيمة جدًّا في الإسلام؛ فالمساجد هي بيوت الله - عز وجل - ومستقبل زواره ووافديه، أذن سبحانه بإنشائها ورفعها؛ فهي مرفوعة عن كل بيوت أهل الأرض مكانة ومنزلةً وعلو شأن، ولم لا وهي المكان الذي يُرفع فيه اسم الله عاليًا، وهي مُتعبَّد المسلمين جميعًا لله - عز وجل - ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النور: 36].
المساجد أوتاد هذا الدين، ولا يزال هذا الدين فينا قائمًا ما دامت المساجد موجودة معظَّمة في نفوس المسلمين، فإذا ما زالت وهدمت هدم معها الدين في النفوس، حتى إن آخر أمر هذا الدين كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون هدم الكعبة؛ أقدس بيوت الله في نفوس المسلمين وأعظمها عند الله مكانة، فإذا هدمت زال الدين بالكلية حتى لم يوجد في الأرض من يقول: الله، الله.
هكذا ينبغي أن تكون بيوت الله في نفوس الناس؛ علوًّا وصونًا لها عن كل ضرر، أما إغلاقها، وإسكات صوتها فهو نذير شؤم، وهو منذر بالهلاك والبوار إن لم تتداركنا رحمة الله تعالى، وإن لم يتحرك أصحاب الغيرة والعلم الذين لا يخافون في الله لومة لائم، مذكرين الأمة بقول الله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 114].
كان المسجد ملتقى المسلمين الأول؛ فيه يجتمعون خمس مرات كل يوم، يصطفون جميعًا صفوفًا متساوية، الأقدام بالأقدام، والمناكب بالمناكب، لا فرق فيهم بين غني وفقير، ووزير وغفير، فذابت في ساحته الرحيبة العصبيات والقوميات، وتلاشى زهو المناصب، وذهب خيلاؤها تحت أقدام المصطفين أمام الملك العظيم، ثم يجتمعون فيه للتباحث في شؤون دنياهم ومعاشهم، ثم يجتمعون فيه اجتماعهم العظيم كل أسبوع ليقوم قائم منهم يذكرهم بربهم ناصحًا لهم ومرشدًا، فإذا هم جميعًا على قلب رجل واحد؛ تآلفًا وتناصحًا وتعاونًا على البر والتقوى ونفورًا من كل سيئ كريه.
ثم هو جامعتهم العلمية، يفدون عليه من كل حدب وصوب؛ لينهلوا من شتى العلوم والفنون من أجلة علماء المسلمين الذين علموا الدنيا كيف يكون العلم وكيف تكون الحضارة.
لقد كان المسجد نقطة محورية في حياة المسلمين، وكان مركزًا لصناعة الأبطال والعلماء والنجباء في كل فنٍّ وفي كل ميدان، فعظموه أيما تعظيم، واهتموا به بناءً وتعميرًا اهتمامًا فائقًا، ممتثلين قول الله: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، فشادوا حضارة مجيدة، شهد لها التاريخ بالعظمة والرفعة، أما نحن - إلا من رحم الله وعصم – فقد ابتعدنا عن هذه الساحات الرحيبة، بل إنها قد نزلت من نفوس البعض منزلاً دنيئًا فلا إعمار ولا تقديس ولا تعظيم لها، حتى صرنا نسمع عن أمور تشيب لشدة هولها النواصي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيا ليتنا نعود إلى بيوت الله معظمين لها ومعمرين كما كان آباؤنا العظماء فنشيد من الحضارة كما شادوا.