-->
موقع محمود العيسوي موقع محمود العيسوي
random

مواضيع تهمك

random
random
جاري التحميل ...
random

همام (مسرحية شعرية) - المشهد الأول




همَّام

(مسرحية شعرية)
المشهد الأول

في بيت قديم بالطوب اللَّبِن، متهدِّم السقف، تجلس أمُّ همَّام على حصير بالٍ وسط غرفة ضيِّقة، ويجلس ولدها همَّام أمامها على قالب طوب قديم.


أم همَّام:
يا بنيَّ، أين تَمضي؟
ثمَّ تُبقيني وحيدةْ؟
أنتَ ظَهري، ومُعيني
في الملمَّات الشديدةْ
لا تُسافر، لا تُغامر
في المَتاهات البَعيدةْ!
همَّام:
إيهِ أمِّي! لا تَخافي..
سوفَ آتي
بعد أعوامٍ عَديدةْ!
أم همَّام:
والعروسُ، هل ستَبقى
رهْنَ أحلامٍ وَليدةْ؟
الزَّواج والثَّراء..
والخَيالاتُ السَّعيدةْ!
همَّام:
سوفَ آتي بعد حينٍ
أَحملُ الدُّنيا الرَّغيدةْ!
لا تَخافي، يا حَياتي..
مِن خَيالاتي الرَّشيدةْ!
واحلمي بالخَير يَمحو
كلَّ آلام تليدةْ!
أم همَّام:
كيفَ هذا؟
إنَّني إن غِبتَ عنِّي ساعةً أبقَى شَريدةْ!
كيف أَقضي اليومَ يا قَلبي إذًا؟
همَّام:

لستُ أدري!!
عند خالي.. عندَ جدِّي!!
أو سُعادٍ أو حَميدةْ!
أم همَّام:
آها! سوفَ أحْيا كالطَّريدةْ!

(تنظر الأم إلى همَّام نظرة عتاب، ثمَّ تدمَعُ عينُها وهي تردِّد)

أم همَّام:
ضاعَ عُمري كي أراكَ ملءَ عَيني
تَملأ البيتَ عيالًا.. خابَ ظنِّي
يا إلهي، أنتَ حسْبي، فأعنِّي!!
يا إلهي، أنتَ حَسْبي، فأَعنِّي!!

يضع همَّام يدَه على فمِ والدتِه، ثمَّ ينظر إليها نظرة حزينة وهو يقول:
همَّام:
إيهِ أمِّي! هل ترَين كيفَ صِرنا؟!
أيُّ بؤسٍ نحنُ فيه؟ أيُّ عارِ؟
هل ترَين اليوم ذلِّي، وافتِقاري؟!
صرتُ لا أَملِكُ قوتًا للنَّهار!
صرتُ لا..
(تقاطعه أمه)
أم همَّام:
يا بنيَّ، أعلَم الحالَ، ولكنْ
مصرُ أَولى بالشَّباب!
مصرُ أَولى بالكِفاح والعَمارِ!
(يقاطعها همام محتدًّا غاضبًا)
همَّام:
مصْرُ التي قد جوَّعت أبناءَها؟!
مصْرُ التي قد أفقَرتْنا رغمَ وَفرة مالِها؟!
مصْرُ التي قد فتَّتتْ أكبادَها؟!
مصْرُ التي صار الغريبُ ابنًا لها؟!
مصْرُ التي سجنَت خيارَ شبابِها
مصْرُ التي قد قتَّلتنا في الشوارِعِ
والجوامِعِ.. والصَّوامِعِ..
حتَّى صبغْنا بالدِّما طُرقاتِها؟!
مصْرُ التي قد طاردَتْنا في السَّماء، وفي البِحارِ
وفي جَميع حُدودِها؟!
مصْرُ التي ألقتْ زِمامَ قيادِها
لمُخنَّث نذْلٍ رَبيبِ عداتِها؟
فمَضى يُعربِدُ في البلاد وما له
همٌّ سوى إفسادِها وهلاكِها!
مصْرُ التي كم شرَّدت مِن عالمٍ
فَطِنٍ، وكان هوَ اللَّبيبَ بساحِها؟!
مصْرُ التي تركتْ عساكرَ غُصَّبًا
في الحكم حتى ضيَّعوا نعماءَها؟!
ستِّين عامًا من خراب ماحِلٍ
وقَفَ العساكر يضحَكُون لدَمعها!
ستِّين عامًا والعساكر قد بغَوا
يتلذَّذون بحُزنها وأنينِها!
ستِّين عامًا في البلاد ولَيْتَها
فطنتْ إلى أنَّ العَساكرَ داؤها!
مصْرُ الجميلة عندكُم قَبُحتْ لنا
لم تُبْدِ غير مَساوئ نَحيا بها

أم همَّام:
لا يا بنيَّ فمصْرُ قد = ربَّتك في أحضانِها
قد عشتَ فوق تُرابها = ورأيتَ نورَ سَمائها
ونعمتَ فيها بالحيا= ةِ، وعشتَ في أيَّامها
ولكَمْ طعمتَ طعامَها = ولكم رُويتَ بمائها
ولكَمْ رأيتَ الخير يَأ = تي في مَسيرة نيلِها
إنَّ القناعةَ يا بنيـ =  ـي عظيمةٌ، فاحْيا بها
لا تنظرنَّ إلى المُلو = كِ وحالِها وحياتِها
واقنَعْ برزقِ الله، لا = تكُ ساخطًا مُتسافِها

همَّام:

أنا ما نظرتُ إلى الملوكِ، وإنَّما
              يا أمِّ أرجو في الحَياة كَرامَه

لا أرتضي عيشَ المذلَّة والمَها
         نَةِ والدِّياثة والوَضاعة والدَّمامَه

فالعسكرُ المَشؤومُ سامُوا مِصرَنا
             ظُلمًا وبغيًا يَسـرقونَ طعامَه

وبغَوا وزادُوا في الجراح وبالَغُوا
              قد أضعَفُوه وضاعَفُوا آلامَه

قلَبوا موازين الأمور ببغْيِهم
             ثمَّ استحلُّوا في النَّهار حرامَه

قد أفسَدوا لكمُ الطَّعامَ ولوَّثوا
                لكمُ المِياهَ فكاثَرُوا أسقامَه

كيفَ الحياةُ وكلُّ شيء فاسدٌ
             حتى منامي نغَّصوا أحلامَه؟

(يُسند همام ظهرَه إلى حائط الغرفة المتهدِّم، ويسرَح بخياله في عالم مِن الذِّكريات).

همَّام:
قد كنتُ أحلُمُ بالتِّجارة والعمارة والعِيالْ
فعملتُ في مِهَنٍ كِثار أبتغي توفير مالْ
وسعيتُ أرجو أن أكون مكافحًا مثلَ الرجالْ
وأقمتُ مشروعًا صغيرًا علَّني أحظَى بحالْ
سَمعوا به، طافوا به، قالوا لنا: هذا مُحالْ
أين الضَّرائبُ، والإتاوةُ، والفَوائدُ، يا خَبالْ؟!
أتريدُ أن تذَرَ البلاد فقيرة؟ هذا ضَلالْ؟
أتُريدُ تضييع البلاد ورمْيها للإحتلالْ؟
أتُريدُ تعريضَ البلاد لمِحنة فيها الزوالْ؟
أتريدُ ضربَ الإقتصاد ودفعَه للإختلالْ؟
أتريدُ ضربَ الأمن أمنَ بلادنا بالإحتيالْ؟
ادفع، وإلا لن ترى غير السُّجون، هي المآل!
فوقفت مشدوهًا كأنيَ صخرة ٌبين الجِبالْ!
أفُتاتُ ماليَ محنة للأرض يا أهلَ الضَّلالْ؟
أخَذُوا البِضاعة والمحلَّ غنيمةً لهمُ حلالْ!

(ثمَّ نظر إلى أمِّه نظرةً حزينةً فوجَدها واجمةً ساكِتة، فأخَذَ يتنهَّد في حسرةٍ)



وأُخِذتُ أخْذَ المُجرِمين إلى سُجونِهمُ الحَزينَةْ!
ورسَفتُ في الأَغلالِ في سجْن المَدينَةْ!
وأُخِذتُ أخْذَ المُجرِمين إلى سُجونِهمُ الحَزينَةْ!
ورسَفتُ في الأَغلالِ في سجْن المَدينَةْ!
(ثمَّ انتفَض غاضبًا وهو يَصيح):

أرأيتِ كيفَ أنا وآلامي الدَّفينَةْ؟
أرأيتِ كيفَ ظُلمتُ في البلدِ اللَّعينَةْ؟
أم همَّام:
ومَتى الرَّحيلُ؟
همَّام:
الفجْرَ أنتظرُ السَّفينَةْ!
(تضع والدةُ همَّام يدَها على كتفِه، والدموع تسيلُ على خدِّها المتجعِّد..)
أم همَّام:
أخْشَى عليكَ مِن التغرُّب والشَّتاتْ!
وأخافُ مِن هذي البِحارِ المالِحاتْ
أخْشى عليكَ المَوج يلعَبُ بالمَراكبِ،
مثلَ ألعاب البَناتْ..
أخْشَى عليكَ البردَ في هَذي الليالي الحالِكاتْ
أخْشَى عليكَ فراقَنا وسْطَ الرِّياحِ الهائجاتْ
وأخافُ مِن ألم المَواجعِ والعُيُونِ الذارِفاتْ
أخْشَى عليكَ مِن الفراقِ، مِن المَمات!
(يضَع همَّام يدَه على كتف أمِّه، وينظر إليها نظرة الواثِق الثابِت)
همَّام:
والموتُ في طلبِ الحَياة حياتْ!
ومضَى يطوفُ بغرفتَيهِ
والدَّمعُ يَحرقُ مُقلتَيهِ
يتحسَّس الجُدرانَ أو
يطأ الحصيرَ بأَخْمُصَيهِ!
ويُلامس السَّقفَ العتيقَ براحتَيهِ
يَبكي.. وتَبكي الدارُ مِن شفَقٍ علَيهِ
أم همَّام:
أَهُوَ الوَداعُ الآنَ يا وَلَدي؟
همَّام:
وغدًا أعودُ إليكِ بالسعَدِ!
(ثمَّ ارتمى همام في حضْن أمِّه، وأخَذ يقبِّل رأسَها ويدَيها)
أم همَّام:
خُذْ رقْمَ خالِكْ، واتَّصل،
لا تَنسَنِي!
يرتمي همام على قدمِها ليُقبِّلها، فتَنهرُه أمُّه:
أم همَّام:
ارفَعْ جبينَكَ عاليًا، لا تَنحني
واشمَخْ بأنفِكَ في الخَلائق قُلْ لهم:
أنتَ ابنُ بطنٍ مِن خيارِ الأَبطُنِ
أنتَ ابنُ بطنيَ، وابنُ بطني لا يَخرُّ ويَنْثنِي
(يرفع همام رأسه، ويرتمي مرة أخرى في حضْن أمِّه..)
وتعانَقا، وتَفرَّقا، وتعانَقا
والدَّمع فاضَ مِن العيونِ وأغرَقَ
همسَتْ تودِّع قلبَها: لا تَنسَني
إن كنتَ غربًا، أو بلغْتَ المَشرقَ
صحبتْكَ يا وَلدي السلامةُ، والسكينةُ
والأمانُ إلى بُلوغِ المُرتَقى
فاحفَظْ عهودَ اللهِ ترشَدْ في الدُّنا
فالخيرُ يأتي كلُّه لمَن اتَّقى
وتعانَقا وتَفرَّقا وتَعانَقا
وتشابَكتْ أيديهِما وتفارَقا
.......
(ثم يخرج همام في عتمة الليل حاملًا أمتعته قاصدًا شاطئ البحر)

التعليقات



عن الموقع

موقع محمود العيسوي: موقع إلكتروني ثقافي شامل.

إحصائيات الموقع

شبكة الألوكة

زيارة شبكة الألوكة

جميع الحقوق محفوظة

موقع محمود العيسوي

2019


تطوير

ahmed shapaan